الطائفة الباغية 3

قال عبد الله البردوني (1929-1999):
“مُغَنٍّ تَحْتَ السَّكَاكِينِ
بِعَيْنَيْهِ حُلْمُ الصَّبَايَا وَفِي حَنَايَاهُ مَقْبَرَةٌ مُسْتَرِيحَهْ
لِنَيْسَانَ يَشْدُو وَفِي صَدْرِهِ شِتَاءٌ عَنِيفٌ طُيُورٌ جَرِيحَهْ
بِلَادٌ تَهُمُّ بِمِيلَادِهَا بِلَادٌ تَمُوتُ وَتَمْشِي ذَبِيحَهْ
بِلَادَانِ دَاخِلَهُ هَذِهِ جَنِينٌ وَهَذِي عَجُوزٌ طَرِيحَهْ
وَآتٍ إِلَى مَهْدِهِ يَشْرَئِبُّ وَمَاضٍ يَئِنُّ كَثَكْلَى كَسِيحَهْ
زَمَانَانِ دَاخِلَهُ يَغْتَلِي دُجًى كَالْأَفَاعِي وَتَنْدَى صَبِيحَهْ
وَرَغْمَ صَرِيرِ السَّكَاكِينِ فِيهِ يُغَنِّي يُغَنِّي وَيَنْسَى النَّصِيحَهْ
فَتَخْضَرُّ عَافِيَةُ الْفَنِّ فِيهِ وَأَوْجَاعُهُ وَحْدَهُنَّ الصَّحِيحَهْ
أَيَا شَمْعَةَ الْعُمْرِ ذُوبي يُلِحُّ فَتَسْخُو وَتُومِي أَأَبْدُو شَحِيحَهْ
فَيُولَدُ فِي قَلْبِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَيَحْمِلُ فِي شَفَتَيْهِ ضَرِيحَهْ
يُوَالِي فَيَرْفُضُ نِصْفَ الْوَلَاءِ وَيُبْدِي الْعَدَاوَاتِ جَلْوَى صَرِيحَهْ
لَه وَجْهُهُ الْفَرْدُ لَا يَرْتَدِي وُجُوهًا تُغَطِّي الْوُجُوهَ الْقَبِيحَهْ
يُعَرِّي فَضَائِحَ هَذَا الزَّمَانِ وَيَعْرَى فَيَبْدُو كَأَنْقَى فَضِيحَهْ
تَرَى وَجْهَهَا الشَّمْسُ فِيهِ كَمَا تَرَى وَجْهَهَا فِي الْمَرَايَا الْمَلِيحَهْ”.
وعلى كثرة أمثلة المغنين تحت السكاكين للمتمثلين من كل مكان وزمان، أرى أن البردوني في هذه القصيدة إنما امتاح من ينبوع نفسه وتمثل بمثالها؛ فقد رزق الطموح إلى التغير والتغيير، حتى ابتلي بالسجن على ضرارته، فكابد من شأن قصيدته هذه ما رفده فيها بدقائق المشاعر.
وسكاكين مثل هذا المغني مضاعفة؛ فطائفة منها تجرحه من داخله، وطائفة تجرحه من خارجه جميعا معا؛ إذ كيف يطمح إلى تغيير ما جمد من حوله قبل تغيير ما جمد في نفسه؛ وفاقد الشيء لا يعرفه فضلا عن أن يعطيه. وكلتا طائفتي السكاكين فإنما شحذها عليه اعتراك الأقطاب المتنافرة.
أما سكاكينه الداخلية فقد شحذها عليه في حاضره اعتراك ماضيه البلي الخنوع الجثوم ومستقبله القشيب الأبي النفور. وأما سكاكينه الخارجية فقد شحذها عليه في حاضره نفسه اعتراك أعدائه الخونة المنافقين المفسدين وأصدقائه الوطنيين المخلصين المصلحين. ولم يخل عمل إحدى الطائفتين من أثر عمل الأخرى؛ فما أشبه أعداءه بماضيه، وأصدقاءه بمستقبله، وما أعلق تغييره بتغيره! بل ربما انعكست في مرآة كل منهما صورة الآخر؛ فإن له في موالاة أصدقائه والانطلاق بمستقبله من الحياة، مثل الذي عليه في موالاة أعدائه والاحتباس بماضيه من الموت!
وقد جعل لحديث كلتا الطائفتين نصف قصيدته هذه ذات الأربعة عشر بيتا (سبعة أبيات)، وفي مطلع النصف الثاني (آخر البيت الثامن)، جعل جروح أعدائه الخونة المنافقين المفسدين، هي وحدها الصحيحة- مثلما جعل جروح ماضيه البلي الخنوع الجثوم في مطلع النصف الأول (آخر البيت الأول)، مقبرة مستريحة، وكلتا الاستراحة والصحة -مهما اعتذر عنهما ببقاء العذاب واستمراره- فلتتان غير مقبولتين في سياق السخط على هذه الجروح!
وكذلك لا يعتذر عن هاتين الفلتتين، بانبناء القصيدة من أصلها على التناقض، من حيث عبر البردوني بها وهي العمودية العروض (المتقاربية الأوزان الوافية الصحيحة الأعاريض والضروب، الحائية القوافي المفتوحة المردفة بياء المد الموصولة بالهاء الساكنة، التي التزم في إرداف قوافيها من ياء المد ما لا يلزمه)، عن طموحه إلى التغير والتغيير، وكان الأجدر به أن يعبر بقصيدة حرة العروض، يأتلف فيها المبنى والمعنى؛ فلا اعتذار بخطأ -إن كان- عن خطأ، وقد اشتهر في فهم المعاصرين أن الشعرين العمودي والحر يتقاسمان حالي التأثير المتكاملتين، بأن العمودي شعر إثارة، والحر شعر ثورة، غير البردوني؛ فقد أبى حياته إلا أن يجمع على تأثير العمودي حالي الإثارة والثورة المتكاملتين جميعا معا، بما استقام له في فهم الإصلاح الأصيل!

Related posts

Leave a Comment